Featuredنخبة المقالات

أزمة “فنزويلا” .. في نظام دولي متغير..

د. جمال زهران

ما الذي يحدث في “فنزويلا” في أمريكا اللاتينية، بالضبط؟ ما الذي يمكن أن نفهمه من وراء تفجر هذه الأزمة في يناير الماضي (2019م)؟ هل يمكن أن تفهم هذه الأزمة في إطار التحولات الجذرية في النظام الدولي الحالي؟

فما حدث في فنزويلا باختصار وتركيز، أن هناك تنازع على السلطة بعد حصول المرشح “نيوكلاس ما دورو”، على أكثر من 60% من أصوات الناخبين، وفوزه بفترة رئاسية ثانية، خلفًا للرئيس السابق (هوجو شافيز) الذي استمر في الحكم (14) عامًا. ورغم أن المعارضة لا تهدأ منذ عام 2015م، مطالبة بإقالة “مادورو” قبل أن ينهي فترة رئاسته الأولى، إثر فوز يمين الوسط بأغلبية مقاعد البرلمان. وأرادت هذه الأغلبية إنهاء تيار “شافيز”، بإزاحة “نيوكلاس مادورو”، إلا أنهم فشلوا.

حيث أعلنت المحكمة الدستورية عدم شرعية إقالة الرئيس قبل الانتهاء من مدته. ولم تفلح المعارضة في إثناء الرئيس “مادورو” عن عزمه الاستمرار في منصبه، والترشح لولاية ثانية. وبنجاحه مرة ثانية بنسبة كبيرة، وجدتها المعارضة فرصة جديدة للتشكيك في نجاح “ما دورو”، والاستعانة بالخارج علانية، وبالولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. وهي التي أعلنت عن الاعتراف بفوز خصم “مادورو”، المعارض، وأنه الرئيس الشرعي لفنزويلا، وعدم الاعتراف بفوز “مادورو”. الأمر الذي فجر صراعًا داخليًا، حسمته القوى الفاعلة في المجتمع الفنزويلي. حيث أعلنت المحكمة الدستورية سلامة انتخابات الرئاسة وأقرت فوز “مادورو”. كما أعلن الجيش بكل أسلحته وفروعه الانحياز للشرعية التي أقرتها المحكمة الدستورية، وأعلن انحيازه لمادورو، وسلامة فوزه في الانتخابات. كما أعلنت النيابة العامة ملاحقة خصم مادورو المعارض وأصدرت قرارها بمنع خروجه من البلاد، كما أعلنت الشرطة مساندتها للرئيس، وكذلك القضاء. وقد أسهم كل ذلك، في تدعيم شرعية “مادورو”، وتوفير السبل أمامه وتقوية موقفه في رفض التدخل الأمريكي في الشأن الداخلي الفنزويلي”.

وبإعلان التدخل الرسمي للولايات المتحدة في الشأن الداخلي بشكل واضح وعلني بل وسافر، وذلك بالانحياز إلى مرشح المعارضة، وعدم الاعتداد بشرعية الرئيس “مادورو”، انتقلت الأزمة الفنزويلية من الداخل والإقليم إلى النظام الدولي، الذي شهد خلال السنوات الثماني الأخيرة عقب الثورات العربية في 2011م، تحولات جذرية أفضت إلى تحوله إلى نظام ثنائي القطبية بعد أن كانت الولايات المتحدة هي المهيمنة على هذا النظام طوال (20) عامًا (1991 – 2011م).

إذن، يجب النظر الآن في فهم وتحليل آفاق هذه الأزمة في سياق التحولات التي شهدها النظام الدولي خلال السنوات السابقة، بدلاً من السير في تفاصيل داخلية أوضحناها بتركيز واختصار، ليست هي العنصر الحاسم في تحليل أفق هذه الأزمة.

فالنظام الدولي قد تحرك بالفعل، وتغير، وحدثت له إعادة هيكلة، حيث أصبح نظامًا دوليًا ثنائي القطبية المرن، بدلاً من نظامًا أحاديًا تسيطر عليه قوة دولية واحدة. وبالتالي فقد أصبح النظام الدولي تنافسيًا، يشهد صراعًا يتسم بـ “الكر والفر” بين أطرافه الفاعلة، ولم يعد نظامًا تعاونيًا مستقرًا أو هادئًا. بعبارة أخرى نحن الآن في عصر، الأصل فيه تعدد القوى والتنافس الحاد فيما بينها، وأن الدول الصغرى والمتوسطة لها مساحة كبيرة في حرية الحركة عما كان سائدًا في زمن القطب الواحد.

وقد تأكد هذا التحول في النظام الدولي، وتغيرت سماته وآلياته. ومن ثم فإن قراءة ما حدث وما يحدث في فنزويلا، هو أن أمريكا لازالت تعيش في كنف نظام دولي أحادي القطبية تسيطر عليه، منفردة، ولا تريد أن تسلم بحقيقة هذا التغيير. فسارعت للاعتراف بمرشح المعارضة باعتباره رئيسًا، وإسقاط الشرعية عن الرئيس المنتخب من الشعب (مادورو)، بل وطالبت دول العالم للإسراع بالاعتراف بما قررته!! فماذا كان رد فعل القوى الدولية المنافسة لها؟! سارعت الصين وروسيا، بالاعتراف بالرئيس الشرعي الفائز بالأغلبية الكاسحة في الانتخابات، وتوالت الاعترافات بالرئيس “مادورو”، وتجاوزت الـ (50) دولة، فضلاً عن التأييدات الشعبية في أنحاء العالم، ومؤشرها “الذهاب الشعبي” للتأييد إلى سفارات فنزويلا في أنحاء العالم. الأمر الذي جعل الرئيس ترامب يلجأ إلى مجلس الأمن مرتين، إلا أن مشروعات قراراته تم رفضها بالفيتو من الصين وروسيا في ظل التحولات في النظام الدولي والتي يحاول ترامب أن يتجاهلها. فالاعترافات تتوالى، والولايات المتحدة مستمرة في ممارسة بلطجتها ضد الرئيس الشرعي متجاهلة الانتخابات ونتائجها الشرعية المدعومة من الجيش والداخلية والقضاء والمحكمة الدستورية العليا في البلاد، وترسل الأسلحة لدعم المعارضة لتحويل فنزويلا لحرب أهلية – عبر صناديق المعونات الغذائية، والتي استقبلها الشعب الفنزويلي بالرفض والحرق علنًا!!

أن أمريكا لازالت تضمر الشر لفنزويلا (رابع دول العالم في إنتاج النفط، وثاني أكير مصدر له للولايات المتحدة)، وترفض فنزويلا الانصياع للإرادة الأمريكية ودخول حظيرة التبعية التي تريدها أمريكا لدول أمريكا اللاتينية كلها. فأمريكا تريد جميع دول أمريكا الجنوبية والوسطى، تابعة تبعية مطلقة، وهو لن يحدث. حيث أن تجربة كوبا 1962م، مازالت ماثلة في الأذهان، وفنزويلا شافيز (1999 – 2013م)، المعادي لأمريكا ونصير الفقراء ومثله الأعلى الزعيم جمال عبد الناصر، خير مثال. إنها لا تريد لا ناصر في الشرق الأوسط، ولا شافيز في أمريكا اللاتينية، وهي متوهمة أن النظام الدولي لازال تحت هيمنتها كاملة. فقد كان شافيز في ظل هيمنتها على النظام الدولي ضدها، واستطاع أن يتحداها بقوة شعبه، فهل هي تستطيع أن تهزم خليفته (مادورو) وعلى طريق شافيز، في ظل معادلات القوة الجديدة في النظام الدولي الذي تأكد تحوله إلى ثنائي القطبية؟! أنا.. لا أعتقد ذلك، ولكنه الغرور والتجبر الأمريكاني بعد توالي هزائمه في الشرق الأوسط والمنطقة العربية وأفغانستان، بل وفي أوروبا، فأراد الانسحاب إلى منطقة الجوار الجغرافي، ففوجئ بهزيمة جديدة، وستستمر هزائمه وفقًا لما سبق أن توقعت. وأطالب صناع القرار في منطقتنا العربية إدراك ذلك والإسراع بالاعتراف الرسمي بشرعية “مادورو”.

د. جمال زهـران

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى