Featuredدراساتمتفرقات

بريطانيا في عنق الزحاجة.. تداعيات “بريكست”


نورالدين اسكندر

أزمة “بريسكت” المستمرة تضع بوريس جونسون أمام الاختبار نفسه الذي أسقط سلفه تيريزا ماي، مع تراكم المزيد من المعطيات السلبية التي تحاصره وتنذر بتحول الأزمة إلى أزمة تنازع صلاحيات بين السلطات الدستورية البريطانية، بعد قرار المحكمة العليا البريطانية القاضي بعدم قانونية قراره بتعليق عمل البرلمان.

لايزال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يتخبط في أزمته المتفاقمة في ملف “بريكست” مع اقتراب الموعد المحدد للخروج من الاتحاد الأوروبي في نهاية أكتوبر-تشرين الأول المقبل. ويبدو جونسون غير قادر على الإمساك بخيوط اللعبة السياسية التي عمل طوال حياته للوصول بها إلى أعلى موقع تنفيذي في بريطانيا، بعد أن قادت قراراته إلى ردود فعلٍ حادة من المحكمة العليا البريطانية والتي وصفت بالصفعة له ولمشروعه وإعلاءً لشأن البرلمان في مقابل رئاسة الوزراء، وذلك من خلال إبطال قرار رئيس الوزراء القاضي بتعليق عمل البرلمان من أجل تنفيذ رؤيته لمسار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقد وضعت هذه التطورات الأخيرة جونسون أمام مطالبات جدّية بالاستقالة من منصبه الذي عمل جاهداً للوصول إليه، والذي في سبيله خاض حرباً ضروساً على رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي.
وبعد قرار المحكمة العليا البريطانية الذي اعتبر أن قرار تعليق عمل البرلمان غير قانوني، أصبح رئيس الوزراء يواجه ضرورة لتعديل موازين القوى في البرلمان، وإلا فإنه لن يتمكن من الحكم، حتى وإن تخطى أزمة “بريكست” بفعلٍ ما سحري. لذلك فإن الموقف الأول الذي أعلنه مباشرةً بعد قرار المحكمة هذا، كان يتضمن الدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرة علّها تعيد خلط الأوراق وتعطيه المزيد من مقاعد البرلمان المؤيدة لسياساته، وبالتالي تكون الأزمة قد حلّت في شقّها الداخلي، بحيث يكتسب جونسون المزيد من الثقة في مفاوضاته الأوروبية.
وقد نظرت المحكمة أولاً في الشكل، فوجدت أنها مخولة النظر بقرار رئيس الوزراء. ثم نظرت في مضمون الحكمين السابقين الذين صدرا سابقاً من المحكمتين الاسكتلندية والإنكليزية، حيث اعتبر قرار المحكمة العليا في اسكتلندا أن قرار تعليق عمل البرلمان غير قانوني، فيما اعتبر الحكم الآخر الصادر عن المحكمة العليا في إنكلترا أنه قرار قانوني. وكحسمٍ لهذا الجدل، كان قرار المحكمة العيا البريطانية بعدم أحقية رئيس الوزراء باتخاذ هذا القرار.
ولكن ليس هذا فقط ما يؤرق جونسون هذه الأيام. الأهم من ذلك هو المعنى السياسي لما يحدث، خصوصاً وأن هناك جانباً أكثر إحراجاً له في القضية، فالنقاش اليوم لم يعد حول الصلاحيات فحسب، إنما تخطى ذلك إلى حد اتهام جونسون بخداع الملكة من خلال تقديم معلومات مغلوطة أدت إلى دعمها قرار تعليق عمل البرلمان. وهذا تحديداً ما أكدته المحكمة في حكمها.
واللافت هنا أيضاً أن قرار المحكمة أعلى من شأن البرلمان (خصوصاً وأن السلطة التنفيذية تتخبط منذ فترة ولم تتمكن من إخراج بريطانيا من عنق الزجاجة الذي دخلت به جراء قرار الخروج من الاتحاد) على الحكومة في بلدٍ يتبع نظام الديموقراطية الكلاسيكية التي تضع معظم الصلاحيات بيد السلطة التنفيذية. وأعطت نموذجاً عن الفصل بين السلطات في هذا النظام.
خداع الملكة يصعب المسألة على جونسون، لكن ليس من المتوقع أن يقوده إلى استقالة، خصوصاً وأنه لم يحكم بعد. وبالتالي فهو يراهن على أن الخيارات التي أوصلته إلى سدة رئاسة الوزراء لاتزال صالحة شعبياً. وهذا تحديداً ما يدفعه إلى الاستعانة بالإرادة الشعبية عبر طلب انتخابات مبكرة يرى أنها ستكون فرصةً لتعزيز موقعه وتحسين النتيجة التي حصدها في الانتخابات الأخيرة.

“المستقبل ليس لدعاة العولمة”
وفي ناحية أخرى من المسألة، يبدو المأزق والأداء ونوعية الخطاب أوجه شبهٍ عديدة بين جونسون والرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهذا ما يفسر مسارعة الأخير إلى محاولة نجدته عبر الإعلان عن أن اتفاقاً رائعاً سيتم بين الدولتين بعد سنة من الخروج من الاتحاد الأوروبي. فيما يبدو محاولة لنجدة جونسون، والقول للبريطانيين إنكم إن أعطيتموه فرصة للحكم لمدة سنة، فإن كل شيء سيتحسن، وأن اتفاقاً كبيراً سوف يكون مع الولايات المتحدة ويعوض لكم ما ستخسرونه من الوجود داخل الاتحاد الأوروبي. ومن جانب آخر فهذه الخطوة الأميركية تبرز نزعة لدى ترامب باتجاه تفكيك التناغم الأوروبي الذي كان يتجه بالاتحاد نحو التحول إلى قوةٍ عظمى منافسة مع بداية القرن الحالي. هذا المنطق يعززه أيضاً إعلان ترامب عن أن “المستقبل سيكون للوطنيين وليس لدعاة العولمة”، وهو تصريح فائق الأهمية والدلالة على القوى الشمال-أطلسية بصورةٍ عامة، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا. وهو يشير أيضاً في ما يشير إليه إلى توجه ترامب وجونسون المعارض للعمل المشترك بين الدول، والعودة إلى نمط الإمبراطوريات المسيطرة، والتي لطالما شكل صعودها مجالاً لتنامي النزعات القومية التي بدورها أنتجت حربين عالميتين خلال القرن الماضي، وحروباً لا تحصى عبر التاريخ.
وكان ترامب قد أعرب الثلاثاء الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن أمله في توقيع اتفاق تجاري “رائع” و”استثنائي” مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.، له فوائد ضخمة للبلدين. بما يوحي بأنه للتعويض عن خسائر المملكة المتحدة المتوقعة من “بريكست”.

خيارات جونسون
لقد كان تعليق جونسون على قرار المحكمة مرتبكاً بعض الشيء حين أعلن احترامه له، وأكد في الوقت نفسه أنه لا يوافق عليه، متبعاً ذلك بالتأكيد على أن الأولوية هي للخروج من الاتحاد في الوقت المقرر.
وبتحليل المكونات الثلاثة لهذا الموقف، يمكن القول إن احترام قرار المحكمة أمرٌ تلقائي لا يستدعي الإشادة لانتفاء ضرورته أساساً وعدم تأثيره على فاعلية القرار. لكن إعلان عدم الموافقة عليه والقول إن الأولوية للخروج من الاتحاد ينبئان بإصرارٍ من قبل جونسون على المضي على تجاوز صلاحياته وتخطي مبدأ الفصل بين السلطات، الذي هو المبدأ الذي يقوم عليه النظام الدستوري لبريطانيا، والذي يدرّس في جامعات العلوم السياسية على أنه النظام الديموقراطي الكلاسيكي الأكثر نجاحاً وصرامة في التزامات سلطاته تجاه الدستور.
ومع أن التوازنات داخل مجلس العموم البريطاني قد تحمي جونسون من التصويت على استقالته إلا أن محاولاته لفرض رؤيته في موضوع “بريكست” تتعقد أكثر فأكثر، خصوصاً بعد صدور قانون بن عن مجلس العموم البريطاني في بداية أيلول-سبتمبر يقضي بمنع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق.
ومع ذلك، فإن إمكانية سحب الثقة من الحكومة تبدو مخاطرة في الوقت الراهن، حيث أنها ستؤدي على الأرجح للخروج من دون اتفاق، وذلك بسبب قرب موعد الخروج وعدم إمكانية إجراء انتخابات مبكرة قبل ذلك الوقت. وبسبب هذا القانون الذي أقر، فإن جونسون لا يمكن له أن يخرج من دون اتفاق، وإلا فإنه سيزيد من تعقيد الأمور على البلاد وعلى نفسه، ويدخلها في أزمة نظام تتضارب قرارت مؤسساته الدستورية.
لكن أمام جونسون الآن خيار طلب تمديد موعد الخروج لشهرين أو ثلاثة أشهر إضافية، إذا لم يستطع الحصول على اتفاقٍ مع الأوروبيين قبل نهاية أكتوبر-تشرين الأول المقبل.
ويعزز هذا المنحى أن البرلمان الأوروبي وافق فعلاً على إمكانية إعطائه فرصة من خلال تمديد موعد الخروج لشهرين آخرين، ولكن مع وجوب تقديم تبرير مقنع من قبل بريطانيا. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان مقبولاً بالنسبة للأوروبيين أن يكون التبرير هو بكل بساطة دخول بريطانيا في أزمة نظام حكم وصلاحيات عقب قرار المحكمة العليا، وفشل جونسون في مهمته للحصول على اتفاق خلال الوقت المتبقي قبل الخروج، أي التبرير بصعوبة الواقع الداخلي المنذر بأزمة أكثر تعقيداً.
وربما يكون أمام جونسون أيضاً خيار التنازل في مضمون الاتفاق الذي أبرمته تيريزا ماي مع الأوروبيين، وتحديداً في النقطة المتعلقة بشبكة الأمان التي تبقي بريطانيا ضمن السوق الأوروبية المشتركة، كأن يتم الإبقاء على هذه الشبكة في إيرلندا الشمالية من دون بقية بريطانيا، إذا وافق الأوروبيون على هذا المقترح.

مؤشرات اقتصادية خطرة: إفلاس “توماس كوك”
في محصلة ذلك، يبدو جونسون منزلقاً أكثر في الحفرة التي ساهم في حفرها لتيريزا ماي، في حين تتراكم معطيات اقتصادية شديدة الخطورة على مستقبله السياسي. فقد سجلت بريطانيا عجزا في الميزانية خلال شهر أيلول أقل من المتوقع الشهر الماضي، في مقابل ارتفاع الاقتراض منذ بداية السنة المالية بأكثر من الربع (28%). في حين يؤكد وزير المالية ساجد جاويد إنه سيطوي سينهي مرحلة التقشف، متعهداً بأضخم زيادة في الإنفاق في 15 عاماً.
ومع أن ذلك يؤشر إلى جدية جونسون في الدعوة لانتخابات مبكرة ومراهنته عليها، فإنه يعلل قراره بتعليق عمل البرلمان بالحاجة إلى التهيئة لخطاب جديد للملكة في 14 أكتوبر-تشرين الأول لتحديد الخطط التشريعية للحكومة للعام المقبل، مؤكداً أنه “سيدعو البرلمان للإنعقاد ومن ثم التجهيز لخطاب الملكة”.
في ظل هذا التخبط في وحول التعقيدات الداخلية والخارجية، كان إفلاس شركة “توماس كوك” ودخولها في “تصفية إلزامية فورية” مدوياً في بريطانيا وحول العالم، فهي أقدم شركة سياحية في العالم وتملك حوالى 20 مليون عميل. خصوصاً وأن إفلاسها يعاد في جزء كبير منه إلى قلق المسافرين من تداعيات “بريكست”. ففي نيسان-أبريل الماضي، وعند نشر بيانات المجموعة المالية التي تملك “توماس كوك”، ألقى رئيس المجموعة بيتر فانك هاوسر باللوم على بريكست الذي تسبب بإغراق ميزانية الشركة وأدى إلى تكبدها خسارات كبيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى