Featuredمقالات مختارة

ثورة المفهوم

ادريس هاني

لا زال الحديث عن المفهوم لم يبرح التعاليم المدرسانية في المنطق وعلم الدّلالة، على الرغم من حيويته وإنتاجيته في فقه اللغة بيانا وتبيينا..الحديث هنا عن المفهوم (compréhensible) وليس المفهوم (concept)، فالأوّل يقابله المنطوق(Opératif) والثاني يقصد به عند التداول _ حتى لا نتيه في التفريع _ المصطلح..فالمصطلح هو مواضعة صناعية تتجاوز اللغة الطبيعية لمزيد من التبيين..وهي عملية تحتوي على المفهوم بالمعنى الأوّل لأنها تتطلّب قدرا من الإنتزاع المفهومي أي التجريد..فكل مصطلح هو مفهوم ولكن ليس كل مفهوم هو بالضرورة مصطلح، ذلك لأنّ المفهوم هنا بالمعنى المقابل للمنطوق هو ملح كلامنا وبلاغتنا وهو خاصية اللغة الطبيعية..نتحدث بجمل نحمّلها أكثر مما يحمله المنطوق..فالمنطوق من وجهة نظر تداولية فقير وأحيانا غير منتج..فربّ قائل لا يقصد من المعنى منطوقه بل دور المنطوق في سياقه مؤشّر على مفهوم ضمير..وعلينا أن نتذكّر بأنّ فعل تضمين الجمل معاني خفيّة ليس أمرا بالضرورة يتشارك فيه كل طبقات المتلقي..فرب متكلم يقصد فئة دون أخرى..ورب متكلم يقصد جيلا دون جيل..ورب متكلم يقسّط المعنى فيجعل هذا لسياق وذاك لسياق آخر..وهنا هيرمينوتيقا الكلام..بل أزيد في الطين بلّة حين أقول بأنّ من المفاهيم ما يتجاوزنا ، وهي الرسالة الخفية التي تتدفّق من حواشي لاوعينا الخلاّق..فليس المتكلم مختارا بل هو مجبور أمام مكر الكلام..وفي تدبير جدل المنطوق والمفهوم تجري عوائد الكلام..وهي اللغة التي بها نحيا..في كل لحظة هناك تصريف للمفاهيم..هناك معاني محمولة وأخرى مهرّبة في حواشي الكلام.. تغتني لغتنا بالمفاهيم..فمن كفر بالمجازات وصعّر وجهه للمفاهيم اختنق في المنطوق..وفي سياقات التباس المعنى وجب الظفر بالمفاهيم لا بالمناطيق..هنا الراجح بقرينة الإلتباس ما يختبئ في المفاهيم..فالمنطوقات مواضعات ماكرة للإلتفاف على الحقيقة وتسويق أسوأ المعاني..وكلّما فسد الزمان فانظر في المفهوم واحذر من المنطوق..فمن عقل ناقته في المنطوق ضلّ وبات أضحوكة للغادي والبادي..إنّنا نعيش أزمة منظور..نهدر اللغة لأننا نرسلها مفرغة ونستهلك منها نصف المعنى بينما نتركها ممتلئة بالمفاهيم..لنعود إلى نفايات كلامنا ففيها منفيّ المعنى..إن ما نفعله حتى الآن هو رياضة التزحلق في مناطيق الكلام..إنّنا نخفي إخفاقنا في اللغة بينما الحقيقة تكمن في اللاّقط الهوائي لفقهنا اللغوي..إنّ أكبر الأنحاء التي وجب تعلّمها هو علم تصيّد الدلالات والمفاهيم..غراماتولوجيا المفهوم..قليل من يملك ذلك..لأنّ رحلة الجهل لا زالت متواصلة بين محطّات مناطيق الكلام..يحسب المرء أنه قدير في التّكلّم والإخفاء لكنه مخبوء وراء فعل الكلام..هيّا تكلمّ لأراك..ولن أراك حتى أحدث لك من المفاهيم ذكرا..احذروا المنطوق فقد يكون ضربا من المعاني البهلوانية التي تحمي ظهر المعنى الحقيقي وهو يتسلّل من دون جواز في مسالك المعاني الهاربة..يحرص المتكلم أن يرسل معنى ما، لكن المعنى يفرض نفسه على المتكلم ويركب لغته ويحتلّها..إنها المفاهيم التي تحتلّنا..ولكن لا زلنا في فعل التخاطب نمنح المنطوق سلطة المعنى..وهنا محنة العقل والكلام أي اللّوغوس..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى